الأم المسكينة
الأمُّ المسكــينة
انتبه أيها القــارئ ، واقرأ كتابي جيدًا ، وهذا الرَّجاء فيه طلبٌ بسيط : وهو أن يَتخلّى القَــارئُ عن مُيولهِ الطائفية والعُنصرية ، وَيكون مُسلمًا حَقيقيًا ..
مَثَلٌ يُضربُ وفي بَطْنهِ أمثالٌ وعِبَر : أمٌ طَــاهِرة زَكيّة باهِرة ، لَهَا وَلَدان ، وكُل منهما لهُ ميول واهتمامات تختلف عن الآخــــــر ، يعيشون مع الأم في نفس البيت بكل ودٍ واحترام ومحبة ..
إنها الأسرة النموذجية المتكاملة ، وقد تزوج أولادهم من بعض ، فابنُ الولد الكبير أخذ بنت الأخ الأصغر ، وكذلك الأخ الأصغر من أولاده من تزوج من أولاد الأخ الأكبر .
والكل يعيشون في هذا المنزل الرَّحْب بسعادة ..
ولكن (( وآه من كلمة لكن )) وهنا (لكن) للاستدراك المؤلم ؛ فكلما تدخَّل الجيران والغرباءُ بينهم تشاجروا ، وفي إحدى الشجارات قُتل الابن الأكبرللأخ الأكبر ، والابن الأوسط للأخ الأصغر ؛ فحدثت القطيعة ، وبدءوا يُقسِّمون البيتَ ، ويبنون الأسوار بينهم ، ويحفرون الخنادق لعزل الحدائق عن بعض ، وطُلِّقت البنات المتزوجات من العائلتين ، وعُدْن إلى بيوت آبائهن ، وحُرمن من الأولاد ، ونزل ستار الحزن على العائلتين ..
ومن هنا أقول للقارئ : أُدرس التأريخَ بتأنٍ ، وابحث بين السطور ، لعلَّك تحصل على الدواء الشافي لعللٍ قد أصَــابت جَسَدَ هذهِ الأمّة ..
السياسةُ ، والمَصَالحُ السياسية ، والأطماعُ ، والمَكَاسب ، والتَّوسع الجغرافي هي التي تؤدي إلى النزاعات والصراعات الداخلية والخارجية ، ولكن يجب أن نعرف أن هذه الشرارة من الصراعات تأتي من خارج منطقة الصراع ؛ فلابد من تدخلٍ خارجي كي يبدأ أهلُ الدار بإشعال فتيل الحرب الداخلية في العلن والسر ..
توضيح : إن المذاهب الإسلامية المنتشرة في العــالم ضمن بُقع جغرافية ، لم تكن بهذه الصورة التي نُشاهدها اليوم ، بل كــانت على خلاف هذا الوضع ؛ فإن تركيا كانت شيعية ، وإيران كانت سُنية ، ومصر كــانت شيعية ، والعراق صراع ما بين الحنابلة والشيعة ، وخصوصا في بغداد ..
ولكن أيضًا ( آهٍ من لكن ) الصراعــات السياسية قَلَبت المَوازينَ ، فأصبحت تركيا سُنية ، وإيران شيعية ، ومصر سنية ، وهكذا ..
وكثير من النَّاس ، وخصوصا العوام يجهلون التأريخَ ، ويجهلون المَعلومات الدقيقة في بُطون أمّهات الكتب ..
فلنضرب مثلا : (إسماعيل الصَّفوي) مُؤسس الدَّولة الصَّفوية ، ليس فــارسيًا ، وليس شيعيًا ، بل هو تركي الأصل ، ومن عــائلة صوفية تابعة للطريقة القادرية ..
ولكن الصراع السياسي مع الدولة العُثمانية جعلهُ يسلُكُ طريقاً يخالف فيه الدولة العثمانية من أجل التميُّز ، ولعلها القناعة جعلتهُ يتجه هذا الاتجاه فشكل جيشًا ، واستطاع أن يُحقق أهدافه ، وأسس الدولة الصفوية .
وأمَّا بالنسبة للعلماء كالإمام أبي حــامد الغزالي ؛ فلم يتكلم عن الإمامية ، بل كــان يسكن المدرسة النظامية في بغداد أنذاك ، وحي المدرسة يقع في منطقة شيعية ..
ولكن الإمام الغزالي رد وتكلم عن الإسماعيلية عن الفرقة النزارية الباطنية ما يسمى بــ ( الحشَّاشون ) وهذا الرد من الإمام الغزالي كــان بسبب ما وقع تحت يده من كتبهم عن طريق أحد الأصدقاء المقربين من الإمام الغزالي والذي كان ينتمي إلى الطائفة النزارية ، وعندما هرب منهم أوصل الكتبَ إلى الإمام الغزالي .
فمن يتهم الإمام الغزالي أنه تكلم في مذهب الإمام جعفر الصادق عليه السلام أو المذهب الإمامي بسوء فهذا باطل ، بل كانوا يعيشون في بغداد ، وكان بينهم الاحترام ، ولم يرد في الكتب الـتأريخية طيلة فترة وجود الإمام الغزالي ، وتدريسه في النظامية حصول مناظرة أو مشاجرة أو شيء من هذا القبيل .
وأقول : يجب أن نتبع الحديث الشريف : (( أنصر أخــاك ظالما أو مظلوما … الحديث ))
مظلومًا بأن تقفَ معه ، وظالمًا بأن تضرب على يديه بأن لا يظلم ..
وإذا تكلمنا عن أي فرقةٍ من فرق السنة أو الشيعة فهذا ليس بمعنى أننا نتكلم عن كل المذهب ، كالذي يتكلم عن فرد من أفراد العائلة ..
وعـــجباً لكثيرٍ من السنة أو الشيعة ، يُـــــدافعون عن فرقٍ خرجت عـــــــن طريق المذهب الحق !!!
فالذي لا يؤمن بالأئمة الإثني عشر (عليهم السلام) ووجوب اعتقاد عصمتهم فهو ضال عند الطائفة التي تؤمن بذلك ..
وفي المقابل في المذهب السني : المشبهة المجسمة : الذين يشبهون الله العظيم بخلقه ، فيتعايشون معهم !!
هل هذا من باب : أنصُر أخاك ظالما أو مظلوما !! أن تنصرهُ في كل الأحوال ؟ أم ماذا ؟؟
وإذا رجعنا إلى قواعد الاعتقاد الحقيقية ؛ فإنه يجب إخراج هؤلاء من المذهب ، بل ليس لهم علاقة بالمذهب ، فنحن نبحث عن النوع وليس الكم ..
((مسألة أخرى)) : هل تعلمون أن أحد أولاد صلاح الدين الأيوبي كان شيعيًا ، وهناك رسائل بينه وبين الخليفة العباسي الناصر وهو يشكو من إخوته ، وممن حوله ..
وللعلم والتأريخ : إن صلاح الدين الأيوبي لم يتعرَّض للإمامية أبدًا ، بل حــارب الإسماعيلية فقط ..
وهنا السؤال : لمــاذا ؟؟
يحتاج إلى بــحث ..
إن العلاقــات الموجودة بين السنة والشيعة هي علاقات حميمة مبنية على الحب والتفاهم ، والمصاهرة ، والنَّسب ، لكن الخلافات تظهر مع رجــال السياسة ، وأصحاب المصالح ، والأطماع ، والذين يطلبون الجاه والمال والشهرة ..
تمعن أيها القارئ في مقولة الإمام الغزالي حيث يقول : (( الناسُ أخطأوا في صفات الله ، وهنالك مدارس تقول بالتأويل والمجاز ، ومنهم من يقول بالتشبيه ، ولم يُكفَّروا ، فكيف بالذين أخطأوا في صفــات أبي بكر وعمر !! ))
المُشكلةُ التي حَدثَت هي خَلْط المفاهيم ، وخصوصا عند بعض المشايخ ((المتأخرين)) حيث تكلموا في طعن مذاهب الشيعة بالعموم ولم يُميّزوا ، فلماذا أصحاب المذاهب يأخذون بأقوال المتأخرين لتأجيج الفتن ، ولا يأخذون بأقوال المتقدمين بأنهم لم يتكلموا ، وكانوا أصحــاب حوار وتعايش ، ولم يتعرضوا للبعض ، ولكن الأطماع الشخصية ، والاقتصاد ، والتمذهب ، والقومية ، والطبقية ، والفقر ، والغنى ، والحاجة ، والخوف ، والقرب ، والبعد تتحكم في أن نُحرِّف التأريخ من أجل المصالح ؛ فإن البشر قد حرَّفوا كتب السماء ، أفلا يُحرِّفون التأريخ ؟؟!!
((مسألة أخرى)) : وتستحق التقدير
آخر خلفاء الدولة الفاطمية طلب المساعدة من نور الدين زنكي حتى ينقذ مصر من الصليبيين ، ووزرائهُ قالوا له :
أيها العاضد الفاطمي : إذا طَلبتَ المُساعدةَ من زنكي فإنكَ ستُسلم مصرَ لهُ ..
فقال مقولتهُ العظيمة : لئن يأخذها زنكي خير من أن يأخذها الصليبيون ..
هذه المواقفُ التأريخية لا تُنسى وتكتب بماء الذهب ، ومن يرجع الى كتب التأريخ يجد الكثير الكثير من الدرر ، وكثير من الدول التي أسست وكانت شيعية كان فيها وزراء سنة ، وكثير من الدول السنية كان فيها وزراء شيعة ، وكان بينهم المودة والاحترام ..
((ملاحظة مهمة)) : يجب أن ينتبه إليها الجميع / مــامن حَربٍ طائفية أو قومية تقع في أي بقعة من يقاع الأرض إلا وكان التدخل الخارجي هو السبب ، وهذا التدخل الخارجي نتيجة قيام حرب في المنطقة ..
إننا عندما نقول السياسة المذهبية أو الدينية لا نقصد بذلك الشعب المسلم ، أو الشعب المسيحي ، أو الشعب اليهودي ، بل نقصد الساسة أصحاب المصالح ؛ فالشعوب والعوام والعلماء ((العاملين)) خارج هذه الدائرة ، فدائما الدول الخارجية عندما يدخلون الى مركز العالم الاسلامي يحاولون استغلال
جميع الطوائف بإشعال الفتنة بين السنة والشيعة ، ولهم طرق كثيرة ونحتاج إلى عدة مقالات بل إلى كتاب لبيان هذا الأمر .
((مسألة أخرى للعِلْم)) : الفَقيهُ الشَّافعي ( عِمَارة اليمني ) كان من الفقهاء والأصوليين والعلماء البارزين ، وكان شـَـاعرا ، وكان مقربًا من الدولة الفاطمية ، تآمر على صلاح الدين الأيوبي لإرجاع أمجاد الدولة الفاطمية ، لكن صلاح الدين الأيوبي ألقى القبض عليه وقتله .
((مسألة أخرى)) : شيخُ الطَّائفة في العلوم الشرعية ، والفلـــك ، والرياضــــيات : ( الطوسي) فالسنة ومنهم ابن السبكي ترجم لهُ بأنه من علماء الشافعية ، وهو يعتبر شيخ الطائفة وعمدة المذهب عند الإمامية ..
وكذلك ابن سينا يتنازعون عليه ..
وكذلك محي الدين بن عربي ..
وكذلك الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك ..
((مسألة أخرى)) : سلاطين الدولة البويهية حكموا قُرابة (100) سنة وهم من الشيعة ، والخليفة أنذاك كان سُنيًا .
((مسألة أخرى)) : المؤرخُ الشّيعي (ابن الفوطي) دافع عن صلاح الدين الأيوبي ، ومدحهُ ، وفي المقابل (ابن الأثير) السُّني ذمَّ صلاح الدين الأيوبي .
((مسألة أخرى)) : وهي من العجائب في العراق : وخصوصًا في بغداد ففي طيلة المائة سنة الماضية من تشكيل الدولة العراقية الى قيام الحرب الأخيرة والفتن في المنطقة ظهرت أمور لم تكن قبل الفتنة موجودة ، ففي أي منطقة في بغداد تجد المنطقة سنة وشيعة وبينهم التعامل بالمصاهرة ، وما من شيعي إلا وأخذ سنية ، وما من سني إلا وأخذ شيعية ، ويصلون في نفس المساجد ولا فرق بينهم ..
وبينهم تزاور ، وفي الاعراس والمآتم تراهم مجتمعين كالبنيان المرصوص ..
ومن العجب وبعد ما حدث في العراق من فتنة ترى رجلا شيعيا لهُ زوجة سنية و له منها سبعة أولاد ، وهو من العوام فيقول لها بعد سنين من العشرة : أنتِ عدوة آل البيت !!
سؤالي لهذا العامّي : أين كنتَ عندما أنجبتَ منها سبعة أولاد ؟؟
ولماذا تزوجتها وهي عدوة لآل البيت ؟؟
وهناك مسائل كثيرة جدا لا تنتهي في مجلد أو مجلدين بل تحتاج إلى موسوعات ..
((نصيحـــتي)) : إلى الجميع يجب أن نتتبع التأريخ ، ونستعين بأهل التأريخ كي نصل إلى القناعة ..
والحقيقة : أن كلمة سُني وشيعي هي لإضعــافِ الدّين الإسلامي ، فيجب أن نتمسك بالقرآن والسنة وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة الأطهار ، وأن ننزع ثوب الطائفية والقومية كي نبني أمة مبنية على الحب والتفاهم ، لأن من يُقتل من كلا الطرفين فهو من نفس العائلة ..
وأقــــــول : كفى إراقةً لهذه الدِّمــاء الزكية ، فإننا نصبغ أراضينا بالدماء فتنمو شجرة الأحقــاد ، وهكذا تستمر المحنة ولا تنتهي ، فكلا الطرفين في خسارة .
وللعلم والتأريخ : ما من أمة سنية أو شيعية عَلَت إلا وخَفَت نجمُها ، وبدأت أمة أخرى فهذه الأمم نجدها يومًا دينية ، ويوماً علمانية ، ويومًا تحت الاحتلال ، ويومًا تحت الانتداب ، والكل في خسارة وضعف وتقسيم وفتن ..
فليفهم الساسة : أنَّهُم أهل جور ، وينظرون إلى المَصَالح الشَّخصية ، والمال ، والجاه ، والشهرة ، فإنهم يستغلون الدين من أجل السياسة لتحريك عواطف الناس من أجل بقاءهم في السلطة ، وزيادة الأتباع …
وأمَّا الخلافاتُ الفقهيةُ بين المذاهب فهي خلافات رحمة ، لأن الفقه والأصول عالم القوانين والفروع الكثيرة ..
أما العقائد فما هي إلا خلافات في الألفاظ ، كلٌّ يُفسر اللفظ على ما ينظر إليه من زاويته ، وكل هذا تحت بند العناد والجدل كي أثبت أنّي على صواب ، والآخر على خطأ ، أي : أنا أعلم ، أي أنا في الصدارة ، وإني انتصرتُ ، والنتيجة : خسارة الأمة ، أو كما ذكرنا في بداية المقالة : الأم المسكينة لأنها فقدت أولادها .
أقـــــــــول : عودوا إلى الله ، فروا إلى الله ، اتركوا التمذهُب ، واتجهوا إلى المذاهب ، واجلسوا مع بعضٍ في حلقات العلم والنقاش ، تقدموا و خذوا منهج النقد البناء وليس الهدَّام ، اتركوا القتل ، اتركوا القتل ، اتركوا القتل …
فلا يُقتل أحد إلا بقانون ومحكمة وشهود وإثبات .
واعلموا : أن الدِّماء تجلبُ الدِّماء ، والزَّمن دوَّار ، يومٌ لكَ ، ويومٌ عليك ، وهكذا التأريخ..
وأقـــــــول : اللـــــهمَّ إنّي مُسلم مُحب لكل النَّاس ..
وصلى اللهُ وسلم على سيدنا محمد وآله الأبرار ألأاطهار ، وأصحابه الاخيار ..
◈◈◈◇◈◈◈
مقتطفات من مؤلفات و كتابات فضيلة السيد الشيخ محمد تحسين الحُسيني النقشبندي القادري رضي الله عنه وأرضاه
Kaynak: Nuraniyat
Teknik Destek: seodanisman
Edited by: Kadiri Nakşibendi Tarikatı
Views: 0