Erbil, Kurdistan
0751 175 8937

ألوان ودموع

Nureddin Ziyad Dalawi

ألوان ودموع


ألوانٌ ودُمُوع

 

رُبَّ لحظةٍ واحدة تُغيِّرُ حياتَكَ كُلَّها ، تلك هي لحظةُ التَّوبة ، فالشَّخصُ الذي يَشربُ الخمر ويُمارس الفَوَاحش والمنكرات ، قد رَجَعَ إلى الله ، وتَاب إليه ، توبةً صادقة .. وأنتَ يا من تلبسُ العِمَامة ، وترتدي القَميص ، وتَتبخَّرُ بالعود ، وتُجالسُ العُلماء قد تصير خادمًا عند ذلك التائب ، العائد إلى جادّة الصواب .

التَّوبةُ ليست مجرد دُمُوع تَذْرِفُها ، وبِضْع رَكَعات تُصليها ثم سُرعان ما تعود إلى مُقارفة الذنوب ..

التَّوبةُ أعظمُ من ذلك بكثير ، التَّوبةُ إرادة ، التوبة لحظةُ إشراق ، وفَلَق صُبْح ، التوبةُ فيها لَذَّةٌ عجيبة، وقناعةٌ عظيمة ، حتى تصير مُغريات الدُّنيا عندكَ كالقَشِّة ، أو كشسوع النَّعْل الذي ضَرَبَ به أمير المؤمنين عليه السلام المَثَل على حقارة الدنيا ، وتَقَاتُل النَّاس على مَنَاصِبها ..

وإنَّكَ إذا حَمَّلْتَ أشخاصًا رسالةً لإيصالها إلى آخر ، فإنَّ كلَّ واحد ممَّن حَمَّلْتَ سيوصِلُها بمفهومه إلى الطَّرَف الآخَر على ضوء مَعْرفته وعِلْمِهِ والبيئة التي يعيش فيها .. ومن هنا فإن الإمام علي عليه السلام قد أحاط بدقائق الأمور لأنه عاش وتربَّى في بيت النبوة ، وكان بحقٍّ بابَ مدينة عِلْم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. لكنَّ تَدخل الفِكْر السياسي قد طَعَن في مسار الفطرة الإنسانية التي فَطَرَ اللهُ الناسَ عليها ، فَظَهرت الكثيرُ من النماذج التي بثَّت أفكارًا سامَّة ساهمت في انحراف الأمة ، وغياب وطَمْس الكثير من حقائق ديننا العظيم ..

إنَّ التعصُّب السياسي، ومُداهنة الحُكَّام، وفتاوى الضَّلال على حساب الثوابت التي لا يتنازع عليها اثنان .. وتأثيرات البيئة في التكوين ، وخُذ الأعرابَ مثالا ،فإنهم لم يؤمنوا ، ولم تطمئن قلوبهم بالله ورسوله ، وبقوا إلى آخر حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يتآمرون عليه ويكيدون له المكائد ..وهم في رَيْبهم يتردَّدون ..

كأنَّهم أخذوا من صفات ((الجَمَل)) الذي هو محور حياتهم !!

والجَّمَلُ حيوان مُعَقَّد حَقُود ينتقم لنفسه ، لا يترك خصمه يُحصِّل مراده .. وهكذا كانت الكثير من الصفات المذمومة التي ما بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وآله إلا لإزالتها.. وتعليمهم خُلُقَ الإسلام العظيم ..

وإذا تتبعنا مسيرة البَعْث لأنبياء الله ورُسُله وَجَدناها تنحصر بين منطقة شرق فلسطين إلى أقاصي الجزيرة العربية .. ومع ذلك انظروا ماذا يحصُل بهذه المنطقة الآن من القتل والتشريد والدَّمار والدِّماء ، وأغلبه بيد أبنائها .. يَقْتُلُ بعضهُم بعضًا !!

إنَّ المتتبع لمسيرة الرِّسالات السماوية يجد أنَّ الإنجيل في جُلِّه كتابُ حِكَمٍ وتصوف وانعزال وبَرَكة وشفاء .. والتوراة فيها أحكامٌ وغيرها ..

وقد حَدَّثنا القرآنُ العظيم عن آدم وأنه أول الخليقة ، وأولُ الخُلفاء ، كما خَاطَبَ اللهُ تعالى ملائكته : ( إني جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَة) .. هكذا استخلفَهُ ثم أهْبَطَهُ ، فكان بين الاستخلاف والإهباط حَصْرٌ لِبَدْء الخليقة .. والكلامُ في القرآن عن أرضنا، وآدمُنا من أديم الأرض .. لكننا لا نعلم ما في الكواكب الأخرى والأكوان الأخرى.. وعِلْمُها عند الله ..لكننا نُؤمنُ بالجانب الروحاني في إخبار قُرآننا العظيم ونبينا الكريم بالمخلوقات اللَّامرئية كالجن والملائكة ونحو ذلك ، فالجنُّ خُلِقوا من نار، والملائكة خُلقوا من لَطَائف النور ، وهم قادرون على التشكُّل ، وقُدرتُهم أكبر بمَرَّات من الجن .. وليس عندهم من الأجهزة مثل ما هو عند الإنسان كفروج ومعدة وأقدام ، ولكن الجنَّ عندهم ما يُماثلُ الإنسان في كثير من تفاصيله .. فالاختلافُ بين الجن والملائكة من حيث نوعية المادة التكوينية ، كأننا نتكلَّم عن سيارة بسنتين مختلفتين للصناعة ، والتفاوت بينهما في الإمكانيات والرقي والجودة ، مع أنَّ الصَّانع واحد.

ومن هُنا كان لإبليس ـ قبل طَرْده ـ منزلة كبيرة في الملائكة ، بل كان بمثابة مَلِك وسلطان عليهم ، لشدة قُرْبه وعبادته لله تعالى .. لكنه ضَيَّعَ كلَّ شيء بتكبره وعِنَاده ..وقد كان سيدنا آدم أولَ خَلْقه بلا شهوة ، وكان يأكلُ من طعام الجنة النوراني، ثم ما لبث أن خُلِقت حواء وبدأت مسيرةُ الحياة الإنسانية بعد حادثة الشجرة ..

هكذا هو العقل ، ضعيفٌ أمام تصور الأمور غير المادية والمحسوسة ، طبيعةُ الإنسان أنه لا يتقبَّل الأمرَ غير المادي بسهولة ؛ لأنه مخلوقٌ من المادة فيميل إليها ، ويَبْعُد في كثير من الأحيان عن الجانب الروحي ، وهكذا سَقَط إبليسُ عندما رَكَن إلى مادة النَّار وجَادَلَ ، فنزلت به اللعنة إلى يوم يُبعثون ..

وهكذا المُلحِدُ فهو يميلُ إلى المادة ، ويترك الرُّوحانية فينحرف ويزيغ ، يعود إلى أصل المادة التي هي محور الاتجاه الإلحادي .. وينبغي أن نُعيد هذا المُلحدَ إلى جادة الصواب بالعقل والحجة والبرهان ، لا بالترويع والتهديد والتخويف ..

هكذا هو صراعُ الخير والشر دائمًا ، فهاهُم قتلةُ الأنبياء من اليهود ( وهم من العَرَب الأُصلاء) قَتَلوا أنبياءهم ، وتمرَّدوا ..فلا ينبغي أبدًا أن يكون عندنا التمييزُ بالقومية الذي لن يعود علينا بشيء إلا المزيد من التشرذم والتشظي والدمار .

وعلينا أن نتحلى بصفات الرَّحْمة النبوية التي جَسَدَها أعظمُ الخَلْق سيدنا محمد صلى الله عليه وآله و سلم ، فالقرآنُ عظيمٌ وواسع وفيه المجاز ، والمجاز أكبر من الحقيقة لأنهُ يقودُنا إلى معرفة الحقيقة ومعرفة الباطن ، والباطن : هو الاستنباط والوصول إلى جواهر الأحكام ..

هكذا هي العُقُول الناطقة التي تُرفْرِفُ في مَلَكوت السموات ، وترتقي وتنتشي ..

أما العقولُ الجامدة فهي كالدَّابة يَضعونَ لها قِطْعتي جِلْدٍ على جانب عينيها حتى لا تلتفت يمينًا ولا شمالا ، بل تسير حَسَب الطَّريق المرسوم لها من الآخِذِ بزِمَامِهَا.

وهكذا سَلَّمَ بعضُ البَشَر عُقُولَهم لغيرهم يقودونهُم كالدَّوَاب ، وهكذا صَنَع الإنجليزُ بعض المذاهب والتيارات التي أسْهَمَت في تقسيم وتمزيق الأمة الإسلامية ..

مذهبُنا واحد هو مذهبُ الإسلام ، كما قال تعالى : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا) ..هذا هو القرآن العظيم الذي حَمَل الخيرَ للبشرية جمعاء ..

قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ).

والدِّيِن من الدَيْدَن ، أي : السَّيْر على الطَّريق، وما كان عَلَيه الالتزام ، وما يكون لمن بعدكَ من الأبناء والأحفاد .

والذين هادوا : من الهداية ؛ لأنَّ كثيرًا منهم كانوا من العُبَّاد والزُّهَّاد ، ولكن يُمكن أن يتراجع هذا المُهتدي ، ويضلُّ وينحرف .

والصابئون : هم أتباع سيدنا يحيى عليه السلام ، وكانت أكثر أحوالهم مبنية على الصوم والزُّهد ، ومعنى صَبَأ : أي تَرَكَ دينه القَديم ودخل في الدين الجديد الصَّواب ، ولمَّا أراد سيدنا يحيى عليه السلام أن يُصحِّح لهم بعضَ المفاهيم اليهودية الخاطئة تآمروا عليه وقَتَلوه .

والنَّصَارى : من النُّصْرَة ، أي: نُصْرة الضعيف ؛ لأنَّ سيدنا عيسى كان يتميز بالهدوء والسكينة والابتعاد عن الصِّدَام ، وكان يعمل بالنِّجَارَة مع أحد أقربائه ، ولمَّا أرسلهُ الله نَصَرَهُ أصحابه وأتباعه .

والإيمان بالله : يُمثِّل بداية الدِّين ، والإيمان باليوم الآخر يُمثِّلُ نهاية الدين ، وبينهما إجمال ، أن تتنفَّسَ توحيدًا باسمه سبحانه ، ثم تؤمن بالمعاد . والمؤمن الحقيقي هو الذي يصل إلى حقيقة التوحيد ، والخلاص من المتعلقات الدنيوية ، والإيمان بالغيبيات ..

قال تعالى : ( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) .وهنا رَبْطُ الكلام بالاستنتاج المُحكم فنقول:

من آمن بالله مُوحِّدًا ، وآمن بالغيبيات والمعَاد ، وكانت أعمالهُ صالحة، بشرط عدم الطعن في الأنبياء والأولياء ، فقد دَخَلَ في دائرة الوِلاية عند الله تعالى ، ومصيرهُ إلى النعيم المقيم بإذن الله ،واللهُ يحكمُ بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون .

وأقول : يجب علينا أن نُحارِبَ الأمراضَ الاجتماعية التي تفتكُ بالأمة ، وأن نحتوي الجميع ؛ لأنَّ سيدنا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم كان يحتوي الجميع .

وكفانا من هذه الصِّرَاعات الجوفاء التي لا طائلَ من ورائها .

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الأطهار وأصحابه الأخيار .

◈◈◈◇◈◈◈

مقتطفات من مؤلفات و كتابات فضيلة السيد الشيخ محمد تحسين الحُسيني النقشبندي القادري رضي الله عنه وأرضاه


Kaynak: Nuraniyat
Teknik Destek: seodanisman
Edited by: Kadiri Nakşibendi Tarikatı

Views: 0